Antonio Gramsci |
إن نهوض المجتمع أو تأخره يعود إلى سلوك المواطنين فيه وكيفية مساهمة دورهم كجزء منه من حيث التأثير على التغييرات التي تطرأ على هذا المجتمع ليكون تغيرات إيجابية أم سلبية، مما يجعله مجتمعا متحضرا أو متأخرا بين باقي الشعوب في عصره.
فالفعل هو المتحكم الرئيسي في سلوك البشر، ومن هنا نستطيع إدراك أهمية تنمية العقل وتوسيع مداركه وأفقه وأن ذبول العقل لا يفيد في تطور المجتمع بل يصبح عائقا لذلك التطور ويخطو بالمجتمع للوراء، ولذلك فإذا تم ذكر الدول المتقدمة والبحث في الشعوب المتحضرة فنجد أن التغييرات الإيجابية التي تطرأ على هذا المجتمع المتحضر قد تمت بعد أن قام هؤلاء القائمين على شئون البلاد بالتخلص من المشكلات الرئيسية التي قد تواجه الدولة من مشكلات صحية، إقتصادية ومالية وتبدأ في إيجاد حلول لمشكلات الأقل كارثية بحيث تعم الرفاهية وتشمل طبقات أقل فأقل، فيصبح محدودي الدخل -مقارنة بالدول النامية وأفرادها- يمتازون بصلاحيات متعددة تمكنهم من العيش في مستوى متوسط رغم إنهم أقل أفراد المجتمع طبقيا. فإن ذلك لا يتم إلا عن طريق توجه فكري قام بتحليل قضايا المجتمع المتواجد فيه للتخلص مما يوقف تقدم الوطن وإضافة إمتيازات تنهض به وتجعله أحد مجتمعات الدول المتقدمة بين شعوب العالم.
فأي مجتمع بالكاد كان بدائي قبل نشأته وتطوره وإنما التحضر فيه لا يأتي إلا عن طريق مفكر، حيث إنه شخص يقوم بإعمال فكره الخاص مستخدما الوعي الجمعي في تطبيق تلك الثقافة الخاصة من خلال تأثيره على الأخرين وقد تصبح الأحزاب وسيلة فعالة لنشر الثقافة والفكر بين الأفراد، وهكذا كما رأينا في "ميرامار" إنضمام "منصور باهي" لحزب شيوعي وكذلك إنضمام "سرحان البحيري" للإتحاد الإشتراكي، وعلى الرغم من أن مبدأ الأحزاب لا يشترط أن يكون سياسيا فمن الممكن أن يكون الحزب فلسفيا، بيئيا، دينيا وهكذا، فهي جميعها تسمى بالثقافات، فما يهم هو إنه فكر يلزم التغيير نحو الأفضل من وجهة نظر ذلك المفكر، فهو بمثابة أداة جيدة لتجسيد ثقافة خاصة أو إشباع توجه يهدف للتغيير الجذري للواقع السياسي.
الإختيار 1971 |
فالعمل على تقديم حلول والدفاع عن أيدولوجية ما معارضا أخرى بمبررات منطقية فإن ذلك يساعد على تنوير العقل وتثوير الوعي الخاص والعام مما يسهل عملية توافق الآراء كنتاج الإيمان بفكر يحمل في طياته توجه معين.
فتلك القناعات التي تنتشر طبقا لموجات تم إشعاعها للتحكم في عقلية الأفراد ومبادئها تجعل من المجتمع مكانا اخر سوف لن يكون له وجود بدون نشر تلك الثقافة المحددة، ولذلك فإن النماذج المختلفة التي قد تناولتها الدراسة النظرية للمثقفين أشارت الى بضعة أنماط وتوجهات فكرية إنطبقت مع مفهوم "جرامشي" للمثقف على الرغم من اختلاف مصائر كل منهم على حدة في سياقه الدرامي، مما يجعلنا نتسائل عن سبب مواجهتهم لختام سلبي في نهاية القضية المنشودة، فهل تواجدهم داخل إطار مغلق يحد من صورة المثقف وهيئته سبب في ذلك؟ مثلما حدث مع شخصية "سيد" في "الإختيار".
في حين ان المثقف عادة ما يتشابه مع شخصية "يوسف" في العصفور" وكذلك "منصور" في "ميرامار"، من حيث التمرد ومبدأ رفض القيود التي يفرضها عليه مجتمعه أو السلطة.
ولا يغفلنا ذلك عن تهميش صورة المثقف وفقا لدور "عبد الرحمن علي" والتركيز على "سرحان البحيري" نظرا لتمتعه برأس مال رمزي أي العمل على إظهاره بتلك الصورة، فمن المتعارف عليه هو عدم تحبيذ السلطة لمن يعاديها فكريا أو عمليا وقد يكون ذلك سببا في رؤية إخراجية جعلت من "سرحان" محركاً للأحداث، ذلك المنافق ُمدعي الثقافة. ممايوحي لنا بأن تلك هي صورة المثقف ومايجب أن تكون عليه أو تصبح السخرية هي الحل الأمثل ممن تخشاه السلطة وممن يعمل عقله.
وكذلك رأينا "أنيس زكي"، ذلك المثقف المتنور الذي تم السخرية منه على أكثر من مستوى. فقد تم التعامل معه على أنه شخص مختل رغم ثقافته ووعيه، كما أنه تم تصويره بالشئ نفسه درامياً وذلك بجانب كونه مثقفاً، ولكن يظل التساؤل يدور في أذهاننا: فلماذا لا يتم تجسيد صورة أنيس كمثقف عاقل؟ وما السبب في حتمية اتهامه بالجنون ممن حوله؟
وعلى الرغم من ذلك فأن "أنيس" ظل صامدا وراء تحقيق العدل رغم وصفه باللا عاقل، والأمر هنا يصبح مغايراً لحال بقية نماذج المثقفين الذين نعتبرهم أقلية وسط مجتمعاتهم، فقد لايجدوا سبًبا في الصمود وراء مبادئهم وفي المقابل يجدوا معاداة الجميع إليهم بطريقة أو بأخرى، وأن "يوسف فتح الله" و "منصور باهي" هم نماذج متفردة بتبنيهم أفكاراً غير شائعة، فقد يصبح ذلك دافعا في البعد عن المسار الذي اتخذوه وذلك لخروجه عن الإطار المحدد له في ظل الظروف الإجتماعية والمعطيات التي تخلق نتاجا غير مرغوب فيه.
ومن هنا فأننا نجد أن الشخصيات الموجودة لدينا تطابقت مع تعريف المثقف لغرامشي وإن تعددت الأنماط واختلفت التفاصيل والاهداف، ولكن يظل "سيد" الكاتب المشهور هو الأكثر إكتمالا من بينهم ليتوافق مع التعريف علميا وعمليا بصورة تقرب من المثالية و بالرغم من تحقق ذلك فأن انتهاء الأمر به بإصابته باضطراب عصبي أو خلل نفسي قد ينم على عدم احتماله للبقاء سجينا بداخل إطار وضعه لنفسه أو بحكم مركزه عليه أن يظل حابًسا للشخص التلقائي بداخله،فلا يزال الرجل المثقف المرموق مصابا "بالسكتزوفرينيا" لا يمثل التعريف الوسطي للمثقف في الواقع، حيث ان الثقافة فكرة لا تموت والشخص الذي يتبنى ثقافة ما بطريقة سوية ينتج عنها منفعة هو من نستطيع تسليط الضوء عليه.
سرحان البحيري - ميرامار 1969 |